بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أخطر شيء يصيب الدين أن يُزاد فيه أو أن يحذف منه :
أيها الأخوة المؤمنون، موضوع درس اليوم موضوع مصيري، بمعنى أن الإسلام حينما يتراجع أمْرُه، وحينما يختصم أهله، يُعزى ذلك في الدرجة الأولى إلى البدع التي ظهرت فيه، فالكتاب والسنة ما إن نعتصم بهما فلن نضل أبداً، ولن نختلف أبداً، فأخطر شيء يصيب الدين أن يُزاد فيه، أو أن يحذف منه، هذا المنهج القويم الذي ارتضاه الله لعباده، إذا حذفنا منه أو أضفنا عليه شوهنا معالمه، وإذا شوهنا معالمه فقد قيمته ولن نقطف ثماره.
وقد وجدت مما يثير الدهشة أن مئة وستةً وخمسين حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب الصحيحة والسنن والمسانيد تنهى عن الابتداع في الدين، وهناك أحاديث تعرفونها جميعاً، وهي متداولة بينكم، وهناك أحاديث كثيرة قد تغيب عن أذهانكم، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ:
((إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
من الممكن أنْ ترجح جانباً في الدين على حساب جانب، ومن الممكن أن تبالغ في فرع من فروع الدين على حساب فرع، لكن حينما تأخذ فرعاً وتضخمه، وحينما تلح على جانب دون جانب، وحينما تأخذ جزءاً وتقول: هذا هو الدين، فماذا فعلت؟ لقد غيرت معالم الدين.
على المؤمن التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام :
العبرة أن نتبع النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
[ سورة آل عمران: 31 ]
النبي صلى الله عليه وسلم وأقول هذا مراراً: معصوم بمفرده، معصوم أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي أحواله، وفي إقراراته، فلذلك يجب أن يكون دأبُ المؤمن التمسكَ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ينجينا، من هنا قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
ما دامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبقةً في حياة المسلمين فلن يعذبوا، وما ترك قوم السنة إلا حلت محلها البدعة، فقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ))
[ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ]
أي ابتداع في الدين وأيّة إضافة باطلة تشوهه :
سيدنا الصديق في أول خطبة خطبها قال: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع"، أنت حينما تبتدع تتهم الدين بالنقص، أنت حينما تبتدع تتوهم أنك تكمل الدين، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[ سورة المائدة : 3 ]
الإتمام عددي، والإكمال نوعي، فأي ابتداع في الدين، وأيّة إضافة باطلة، تشوهه، لكن يجب أن ندرك جيداً أننا إذا أحدثنا في المسجد تكبيرَ صوتٍ، وتكييفًا، وتدفئة، و ماء بارداً، وماء ساخناً، فهذا ليس من البدعة، هذه بدعة لغوية، حكمها متعلق بموافقتها لكتاب الله وسنة رسوله.
عندما تقام حفلة فيها نساء، ويجري تصويرُها ليشاهد كلّ الرجال في بيوتهم صورَ النساء بعد الحفلة، فهذه بدعة لم تكن من قبل، لكنها تخالف نصوص الشرع، إذاً فهي محرمة، عندما نُكبّر الصوت بالمسجد فهذه بدعة لم تكن من قبل، لكنها تزيد من وضوح الصوت، وتوضح البيان الذي يلقى بالمساجد، هذه بدعة مقبولة.
أحكام البدع :
البدع لها ثلاثة أحكام، حكم التحريم، وحكم التحليل، وحكم الإيقاف، آلة قد نستخدمها بالحلال أو بالحرام، قد نسمع بها أغاني، وقد نسمع بها القرآن، فالآلة التي يمكن أن تسمعنا أي شريط هذه بدعة موقوفة على نوع استخدامها، إن استخدمناها بالحق كانت مقبولة، كأنْ نسمع بها القرآن، ودروس العلم، أما إذا استمعنا بها الغناء، وما شابه ذلك من لهو الحديث فهي مرفوضة، فكل شيء لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا علاقة له بالدين، لا علاقة له بالعقيدة، لا علاقة له بالعبادة، كل شيء استحدث دون أن يمس عقيدة الإسلام وعباداته فله أحكام ثلاث، إما أنه موافق، أو أنه مخالف، أو أنه موقوف، فالبدعة اللغوية ليست موضوع درسنا، بل موضوع درسنا البدعة في الدين.
الدين الإسلامي منهج قويم ينبغي أن نأخذه بكامله :
إله عظيم أوحى إلى نبي كريم وحياً متلواً هو القرآن، وغير متلوٍّ هو السنة، ونأتي نحن لنضيف عليها، أو لنأخذ منها، نضيف ما يعجبنا، وندع ما لا يعجبنا، فنحن إذاً من أهل الأهواء، ومن أهل البدع، هذا منهج قويم، ينبغي أن نأخذه بكامله، وليس لنا أن نأخذ منه ما يعجبنا، هكذا نعى الله على بني إسرائيل، قال تعالى:
﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 85 ]
مشكلة المسلمين اليوم أنهم يأخذون من الدين ما يعجبهم :
قد تجد مسلمين كثيرين، يتزاورون في المناسبات، فأنْ تزور الناس في العيد فهذه سنة، أن تذهب إلى بيت الله الحرام معتمراً في الشتاء فهذه رحلة ممتعة، لكنْ عليك أنْ تغض بصرك، يقول بعضهم: أين أذهب ببصري؟ ماذا نفعل بقوله تعالى:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
[ سورة النور: 30 ]
يقول: لا أستطيع، إن قلت: لا تستطيع فإنك تُكذِّب كلام الله، وتعترض عليه، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
[ سورة البقرة: 286 ]
فمشكلة المسلمين اليوم أنهم يأخذون من الدين ما يعجبهم، وما هو يسير عليهم، ومتوافق مع رغباتهم، أما إذا جاء الأمر بتحريم شيء تردَّدوا، وإذا جاء الأمر بإلزام الإنسان بمنهج قويم تفلَّتوا من هذا المنهج.
من هان أمر الله عليه هان على الله :
لذلك مشكلة المسلمين اليوم أنهم كثير ؛ مليار ومئتا مليون مسلم، ففي الحديث عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ:
((يَا أَكْثَمُ اغْزُ مَعَ غَيْرِ قَوْمِكَ يَحْسُنْ خُلُقُكَ وَتَكْرُمْ عَلَى رُفَقَائِكَ، يَا أَكْثَمُ خَيْرُ الرُّفَقَاءِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ))
[ابن ماجه عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
لن تغلب في الأرض، والحديث صحيح، فإذا غُلِبوا وهم مليار ومئتا مليون فإنهم ليسوا على حق، هان أمر الله عليهم، وهانت سنة نبيهم عليهم، فهانوا على الله.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ))
[ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ]
وبما أن الدين نقلٌ، وأخطر ما في النقل صحَّتُه، فينبغي أن تعُدَّ للمليون قبل أن تسلك سلوكاً في الدين قد يكون بدعةً، وقد يكون سنة.
المؤمن الصادق معصوم من أن يخطئ لأنه متبع لمنهج الله ومنهج رسوله :
وعِنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ؟ فَقَالَ:
((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلافًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالأمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ))
[الترمذي وابن ماجه وأحمد عِنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ]
وفي حديث آخر عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلا صَلَاةً وَلا صَدَقَةً وَلا حَجًّا وَلا عُمْرَةً وَلا جِهَادًا وَلا صَرْفًا وَلا عَدْلا يَخْرُجُ مِنَ الإسْلامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ))
[ابن ماجه عَنْ حُذَيْفَةَ]
فالإنسان يمكن أن يغلط بالوزن، على العين والرأس، تغلط مرة، أما إذا كان الميزان خطأ فهذا شيء خطير، الخطأ في الوزن لا يتكرر، بينما الخطأ في الميزان لا يصوب أبداً.
الميزان إذا كان في أسفله أوقية ملصوقة، لو وزنت به مليون وزنة فكلها خطأ، وقد يكون الميزان حساساً، وزنت كيلوَين، واعتقدتها كيلواً واحداً فأنت أخطأت في الوزن، وليس أحد معصوماً من الخطأ في الوزن، أما المؤمن الصادق فمعصوم أن يخطئ في الميزان، لأنه متبع لمنهج الله، ومنهج رسوله.
و عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلا صَلَاةً وَلا صَدَقَةً وَلا حَجًّا وَلا عُمْرَةً وَلا جِهَادًا وَلا صَرْفًا وَلا عَدْلا يَخْرُجُ مِنَ الإسْلامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ))
[ابن ماجه عَنْ حُذَيْفَةَ]
أنت مؤمن، والله عز وجل أوحى لنبيه قرآناً، والنبي بيَّن لك، وكل جهود العلماء إلى يوم القيامة مِن أجل أن يبيِّنوا لك ما في القرآن، وما في سنة رسول الله، فهل مِن الممكن للمُبَيِّن أنْ يتجاوز؟ لا.
دققوا في هذا المثل، لو أن قانوناً صدر لتحديد رواتب الموظفين، وفيه مادة تبيِّن أنّ أعلى راتب في الدولة عشرة آلاف، وسوف يصدر قراراً تفسيرياً لوزير المالية يبيِّن حقيقة أحكام هذا القانون، المادة الصريحة: أعلى راتب عشرة آلاف، هل من الممكن أن نفهمها خمسين ألفًا؟ الشرح يتقيد بالحدود العليا والدنيا، لكن هل مِن الممكن لشرحِ القانون أنْ يتجاوز حدوده؟ لا، كذلك لا يمكن لإنسان يشرح السنة أنْ يتجاوز حدودها، هذا شيء لا يليق إطلاقاً.
الله العظيم لا يمكن أن يكون في دينه نقص لأن النقص من صفات البشر :
حديث آخر:
((إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَ [إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ]))
[البخاري عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ]
نحن لا نعارض أن نصلح دنيانا، مِن الممكن أن نضع مصعداً للبناء ما كان من قبل، وأن نمدد كهرباء، هذا كله لا علاقة له بالدين، ولكن نحن عندما ندخل على العقيدة، ونُغير على السنة فنلغي بعضها، أو نضيف عليها ما ليس منها، فقدْ لعبنا بدين الله عز وجل، نحن مِن الممكن أن نطور حياتنا المادية، الابتداع مجاله في الحياة، أما الاتباع فمجاله في الدين، لأنه دين الله، والله العظيم لا يمكن أن يكون في دينه نقص، النقص من صفات البشر، قال تعالى:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[ سورة المائدة : 3 ]
كمال مطلق، المعنى أنّ عدد القضايا التي عالجها الدين تام، وطريقة المعالجة كاملة، انتهى الأمر، أنا أبتدع وأطوِّر تجارتي، حياتي، مسكني، أطوِّر مرافق الأمة، المستشفيات، المدارس، أما أن أزيد على الدين بحكم التطور، أو أن ألغي منه، فهذا شيء خطير جداً، وقد نهى عنه النبي أشد النهي.
((إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا... ))
[البخاري عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ]
الإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي الكريم وحده هو الذي يسعد المسلم :
ما الذي حصل أيها الأخوة، العالم على اتساع رقعته، وعلى مدى قاراته الخمس ترك منهج الله، وأدار له ظهره، وتركه، وابتدع أنظمة، هذه الأنظمة التي ابتدعها ألم تسقط واحدةً واحدة؟ الآن تجد الذين ابتدعوا أنظمةً لهم، وابتدعوا منهجاً ليس في كتاب الله فعادُوا مقهورين إلى منهج الإسلام، لا عن عبادة، ولكن عن مصلحةً، فالمعسكر الشرقي عندما حرم الخمر قبل خمس سنوات تحريماً قطعيًّاً، فلماذا حرمها؟ هل حرّمها تديناً؟ لا، هو كافر بالدين، حرمها مصلحةً، فتجد كل إنسان ابتدع نظاماً، أو فكرة، أو عقيدة، ثبت بطلانها، وسقطت في الوحل، ولم يبق في الأرض كلها إلا دين الله، وهناك الآن صحوة إسلامية، ولكن هذه الصحوة ينبغي أن تُرْشَد، لا أن تستغل الناس، فهُمْ لا يعبؤون بأي منهج وضعي ابتدعه البشر، وكل هذه المناهج سقطت في الوحل، ولم تسعد الإنسان، هذه حقيقة مسلَّم بها، لا الغرب أسْعَدَ الإنسان، ولا الشرق أسعده، ولكن الإسلام وحده يسعد، ولكن أي إسلام؟ أإسلام الفتل الميلوية؟ إسلام الطرب؟ إسلام الولائم؟ إسلام المظاهر؟ إسلام المديح؟ لا، لا يسعد المسلم إلا الإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ))
[مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]
الشاهد في هذا الحديث: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ.
أمثلة على أن تشريع الله عز وجل تشريع كامل :
أضرب لكم بعض الأمثلة، ولكن على مستوى العالم، هناك بلد مثل الصين، ظهر فيها تشريع يلزم الأسرة بإنجاب ولد واحد، وهذا الموضوع قد تابعته كثيراً، كل شهر يصدر في الصحف خبر صغير عن الموضوع، أول شيء حصل أن كل أسرة في الصين إذا أنجبت بنتًا تخنقها، وإن أنجبت طفلاً ذكراً تسجله ملزمة بولد واحد، فالبنت تُقتَل، وتوأد، والذكر يبقى، فوجئوا أن هناك قرىً بأكملها ليس فيها إناث، كلها ذكور، التقدير الأخير أن هناك خمسين مليون فتى ليس لهم مَن يتزوجهم، وصار هناك نقص في الإناث، ونشأت عصابات تخطف الفتيات في سن الزواج، هذا إنسان شرَعَ من عنده، لكن الله سبحانه وتعالى حينما شرع كان تشريعه كاملاً.
حينما ألزمْنَا كلَّ زوج حين يطلق زوجته - كما هو مطبق في الغرب - وقف الزواج، وحل محله السفاح، الآن معظم العالم زواج بلا عقد، تسكن معه، ويسكن معها، و يتعاشران معاشرة الأزواج دون عقد مدني، ولا ديني أبداً، لكن في الإسلام هناك مهر، إن طلقتها فادفعْ لها المهر، وانتهى الأمر، أما أن تأخذ هي نصف مالك كله فهذا تشريع أرضي، هناك آلاف التشريعات الأرضية لها مضاعفات خطيرة، أما حينما نعلم أن الذي شرع لنا هو خالقنا، فخالقنا لا يحيف على أحَدٍ، وهناك نقطة دقيقة جداً سأوضحها لكم: مرة كان أحد العمّال يصلح مركبتي، فقال لي: هذه لا لزوم لها، قلت له: خمسة آلاف مهندس يعملون في هذه الشركة، وعمر الشركة مئة عام، فهل أنت أكثر فهماً منهم؟ وبلا مناقشة، دون أن أصغي لوجهة نظره، رفضتُ كلامه، عندي مبادئ، شركة عمرها مئة عام، وفيها خمسة آلاف مهندس صممت هذه القطعة، فلماذا تلقيها في الأرض، وتقول: ليس لنا بها حاجة، أنا لست مستعداً أن أصغي إليك إطلاقاً، ولا أن أناقشك، لستَ أعظم فهماً، ودراية، ممن صمم هذه المركبة، معنى ذلك هناك شعور ثابت أن الصانع هو وحده الذي يُرجع إليه.
وأضرب لكم مثلاً آخر: عندك كومبيوتر تعطل، لا يمكن أن تعطيه لبائع الخضرة، وإن كنت تحبه حباً جماً، وكان مستقيماً، وابن حلال، ولكن هذا ليس اختصاصه، فالكمبيوتر له شركة مصممة صنعته تعود إلى أصل الشركة، فأنت إنسان لك صانع و لك خالق هذا الذي خلق، وأبدع، وصمم، وصنع، وخلق جسمك، وخلق نفسك، وخلق بنيتك، وطباعك، ينبغي أن تعود إليه، لذلك حينما تحدِّثنا أنفسُنا أن نضيف إلى الدين ما ليس منه فقد ارتكبنا جريمةً كبيرة، كذلك أن نحذفه منه شيئاً شوهنا معالمه، ومِن الممكن إذَا حذفتَ من الجهاز فيوزاً ثمنه ليرتان يتعطل الجهاز بكامله.
مَن خرج عن منهج الله واتبع هوى نفسه وقع في شرّ عمله :
دين الله أدق بكثير من هذا الجهاز، إنه منهج متكامل، إذَا أُلغِي منه بند فقدْ انتهى الدين إلى ضلال، ما الذي حصل الآن لهذا الدين العظيم؟ المنهج القويم المتعلق بعلاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأسرته، وعلاقته بمن يعمل معهم، وعلاقته بمن حوله، بمن دونه، بمن فوقه، هذا الإسلام العظيم ضُغِط، وضُغِط، ومُسِخ إلى أن أصبح صوماً، وصلاةً، وحجاً، وزكاةً، فلدينا ألف أمر في البيت، ألف أمر في العمل، فهذا المنهج الدقيق يجب أن نعود إليه، وأن نطبقه.
لقد علمتُ لديهم في الأمن الجنائي قاعدة، كلما رأوا جريمة يقولون: ابحث عن المرأة، أغلب الظن أنّ وراء هذه الجريمة امرأة، أو سببها امرأة، أو ضحيتها امرأة، القاعدة الذهبية في الدِّين: كلما رأيت مشكلةً فابحث عن المعصية، لأنّ الإسلام منهج قويم مِن عند خالق الإنسان، فصحته مطلقة، وفعاليته مطلقة، ونتائجه مطلقة، فإذا رأيت مشكلةً فاعلم علم اليقين أنّ هناك مَن خرج عن منهج الله، واتبع هوى نفسه فوقع في شر عمله، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ))
[متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا]
يجب أن يُرَدَّ، هو ردّ، وينبغي أن ترده أنت، لأنه لو سَمَحْنا لكل إنسان أن يبتدع صرنا أمام مليون دين، كلها لا تَمُتُّ إلى الأصل بصلة.
آثار كل الأعمال مسجلة على أصحابها :
الحقيقة أنّ أحد أسباب تخلف المسلمين كثرة الخرافات والاتجاهات، اذهب إلى أي مكان في العالم تواجهك فِرَقٌ، واتجاهات، وانتماءات، وولاءات، كل يدّعي أنه على حق، ويهاجم الطرف الآخر، هذا المنظر لا يحتمل، تمزق، طعن، خلاف، سوء ظن، هذا لا يمكن أن يكون، وهو سبب تخلُّف المسلمين، فعَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ:
((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا))
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
تكلم ما شئت، وادعُ إلى من تشاء، وكيف تشاء، ولكن تيَقَّن أن كل شيء تدعو إليه إنْ تمسك به إنسان، وهذا الإنسان دعا إليه، وتمسك به إنسان آخر إلى يوم القيامة، فإنْ كان صواباً فَلَكَ مثلُ ذلك، وإن كان خطأً فعليك مثلُ ذلك، فالقضية خطيرة جداً، قال تعالى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾
[ سورة يس: 12 ]
آثار كل الأعمال مسجلة على أصحابها، فلن تجد حالاً أرقى من الاتباع، إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، الاتباع له ثلاث نصائح، تُكتَب على ظفر:" اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، الورع لا يتسع".
أفضل عمل أن يعرف الإنسان الطريق القويم الذي سنَّه الله و رسوله :
أخواننا الكرام، لو أننا جميعاً اتبعنا الكتاب والسنة لاجتمعنا، ولَتَوَحَّدْنا، ولأحبَّ بعضُنا بعضاً، فما الذي فرقنا؟ نصوص ضعيفة، أو نصوص موضوعة، أو أهواء متنوعة، أو انتماءات متَّبعة، هذا الذي مزقنا:
((مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا))
[مسلم عَنْ جرير بن عبد الله]
لو دققت في عادات المسلمين وتقاليدهم، واحتفالاتهم، وأحزانهم، وأفراحهم، تجد أشياء كثيرة جداً ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لها أصل أبداً، بل هي كلها بدعٌ تَفُتُّ في عضدهم، وما حلَّت بنا بدعة إلا أُميتَ بمثْلها سنة كان يجب أن نتبعها.
فعِنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ فَقَالَ:
((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلافًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالأمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ))
[الترمذي وابن ماجه وأحمد عِنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ]
لذلك فالإنسان عندما يحضر مجلس علم، ويعرف أصل الدين، وحقيقته فهو يخطو خطوة نحو اتباع رسول الله، والحقيقة هل هناك من عمل يعلو على أن تفقه منهج ربك؟ هل هناك من عمل أفضل من أن تعرف الطريق القويم الذي سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم؟ هل هناك من عمل أعظم من أن تتبع تعليمات الصانع؟ هذا هو الدين.
رأي سيدنا عمر بن عبد العزيز بالقدر :
مَن أدرك عصراً فيه فتن، فيه ضلالات، فيه ولاءات، فيه انتماءات، وفرق، وطوائف، فهذه كلها تتعارض مع بعضها بعضاً:
((... فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ...))
[الترمذي وابن ماجه وأحمد عِنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ]
كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب هذا الخليفة الراشد الذي يعد خامس الخلفاء الراشدين: "أما بعد؛ أوصيك بتقوى الله عز وجل، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتركِ ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، عليك باتباع سنته، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة".
أحيانًا يشتري رجل آلة غالية الثمن، ومعها تعليمات يترجمها، ويطبقها بحذافيرها، فيشعر بالطمأنينة، هذه تعليمات الصانع، كل شيء فَعَلَه بدقة، شغّل الآلة بمنتهى الدقة، وطبّق التعليمات بدقة، فشعور الإنسان، وهو يطبق تعليمات الصانع شعور مريح جداً، فكيف بك وأنت تطيع الخالق؟
قال: فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعةً، إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها، أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنّها مَن قد علِم ما في خلافها، ولم يقل أحد عن الذي سن هذه السنة: لماذا سنها؟ لماذا قال: عليكم بالجماعة؟ لأنه علِم ما في خلافها، فالمشرِّع هو الله عز وجل، والنبي موحى إليه، فالإله حينما شرع شيئاً يعلم علم الغيب أن الناس قد ينحرفون عنه، لماذا شرع الإله بقرآنه، أو أوحى إلى نبيه شيئاً؟ لأنه يعلم ما يؤول إليه حال المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: "فارضَ لنفسك ما رضي القوم لأنفسهم"، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ))
[متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ]
إذاً فالصحابة كانوا نخبة البشر، إن الله اختارني، واختار لي أصحابي، إذا كان هناك قضية والصحابة ترفعوا عن البحث فيها، أو متاهة في الإسلام والصحابة تنزهوا عنها، ينبغي نحن أن نفعل فعلهم.
قال: "فارضَ لنفسك ما رضي القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وبصيرةً، وبصر نافذ، كفوا عن ذلك، وقد علموا حقيقة الأمور، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقوكم إليه، ولقد قلتم إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مِن مقصر، وما فوقهم مِن معسر، ولقد قصر قبلهم قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإن بين ذلك لعلى هدى مستقيم، كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت".
أعطاه مقدماً كيف أنّ سيدنا يوسف في السجن لما سأله إنسان سؤالاً دله على التوحيد أولاً، ثم أعطاه الجواب، فهذا الخليفة الراشد قبل أن يجيبه عن سؤاله الدقيق بيَّن له أن هؤلاء الصحابة الكرام كانوا مع النبي، وقد اتبعوا الوحي من السماء، والنبي معصوم فيما يقول، فقد أعطاهم الله كل الخير، فإذا سكت الوحي عن شيء ينبغي أن نسكت عنه، وإذا ترك الصحابة شيئاً ينبغي أن نتركه.
ثم يقول: "اعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثراً، ولا أثبتُ أمراً من الإقرار بالقدر".
الإسلام نقل وعقل :
نقطة مهمة في هذا الموضوع، وهي أن في الإسلام نقل وعقل، العقل محدود المهمة، العقل مختص بالاستنتاج، هناك كون عظيم، ولك أن تفكر فيه، وأن تستنبط منه حقائق لا تنتهي عن الله عز وجل، هذا مجال العقل، العقل يحتاج إلى شيء مادي تَعْبُرُ منه إلى الشيء المعنوي، هو الاستدلال، الأثر يدل على المؤثِّر، الخلق يدل على الخالق، النظام يدل على المنظم، التسيير يدل على المسير، هذا هو مجال العقل، أما لو أعملت العقل في غير هذا المجال في القضاء والقدر، كلما حل مشكلةً أورث مئة مشكلةً، لأن هذا القضاء والقدر إخباري، كل شيء عجز العقل عن إدراكه أخبرنا الله به.
المؤمن الصادق عنده ثلاث قواعد، شيء محسوس أدواته الحواس، وشيء معقول أدواته العقل، وشيء مغيب أدواته الخبر الصادق، فكلما نقلت قضية من حقل إلى حقل وقعت في متاهة لا تنتهي، قضية اليوم الآخر لا يستطيع العقل وحده أن يجزم فيها، لأن الله أخبرنا عنه، قضية الإنس والجن والملائكة لا يمكن للعقل أن يقطع فيها، ليس هناك دليل مادي، العقل مهمته أن ينظر إلى شيء، يقول لك: هذا ماء، لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، لأن الماء صافٍ للشرب، وهذا كأس بلور أسطواني الشكل، فالعقل ينظر، ويحكم، وقد تجد فاكهة لها طعم، ولون، ورائحة، وقوام تناسب جسم الإنسان، الذي خلقها هو الذي خلق الإنسان، هذه الحقيقة يصل بها العقل، حينما تريد أن تعرف بعقلك القضاء والقدر، أو أن تعرف بعقلك عن الجن والملائكة، أو عن الماضي السحيق، أو المستقبل البعيد، فهذا شيء يفوق طاقة العقل، إلا أنّ الله أخبرك عن كل شيء.
في موضوعات المغيبات تلجأ إلى الخبر الصادق، وفي موضوعات المحسوسات تلجأ إلى الحواس الخمس، وفي موضوعات الاستدلاليات تلجأ إلى العقل.
الإنسان متى يخطئ؟ حينما ينقل قضية من حقل العقل إلى حقل النقل، أو من حقل النقل إلى حقل العقل، أو من حقل المحسوس إلى حقل المعقول، كل موضوع يجب أن تستخدم أداته الأولية.
مِن علامات توفيق الإنسان أن يبحث في كل شيء عن أصله :
أيها الأخوة، دائماً وأبداً الأديان حينما تأتي إلى الناس تكون عند مَن كان قريبَ عهدٍ بنزول الوحي، فالدين صافٍ، لكن بعد مرور الزمن تأتي الإضافات، وتأتي البدع، وتأتي التأويلات، وتأتي المشكلات، فما الذي ينقذنا وقد مضى على نزول الوحي ألف وخمسمئة عام؟
إذا كان الإنسان في حالة عطش شديد، وأمامه نهر له منبع صاف، ماؤه زلال، ثم جاءته روافد حتى جعلتْ مياهه سوداء، وأنت في حالة عطش شديد أتذهب إلى مصب النهر أم إلى منبعه؟ الآن لا ينفعنا إلا أن نعود إلى منبع النهر، إلى النبع لا إلى المصب، المصب أهواء، وبدع، وخلافات، ومبالغات، أما إذا عدت إلى أصل الدين وجدت الصفاء ووجدت الوضوح، فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ:
((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ))
[أحمد عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ]
لذلك أيها الأخوة الكرام: مِن علامات توفيق الإنسان أن يبحث في كل شيء عن أصله، عَنْ جَرِيرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
(( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ ( اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ))
[مسلم عَنْ جَرِيرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]
على الإنسان أن يأخذ ما هو صحيح و يترك ما هو باطل لينجو بدينه و دنياه :
يا أيها الأخوة الكرام: هذه الأحاديث الصحيحة وضعتها بين أيديكم، القصد أن الإنسان في آخر الزمان تختلط دونه الأوراق، وتتعدد المشارب، وتصطرع المذاهب، فيخفق الحق، ويكثر باطل.
إذا تصورنا أنك دخلت إلى غرفة، ووجدت فيها ألف قطعة صفراء لمّاعة، ثم أُخبِرتَ أن من هذه القطع الألف مئة قطعة من الذهب الخالص، عيارها أربعة وعشرون، ومئة قطعة، عيارها إحدى وعشرون، ومئة قطعة، عيارها ثمانية عشر، ومئة قطعة، عيارها إحدى عشرة، ومئة قطعة من النحاس المطلي بالذهب، ومئة قطعة من النحاس الملمع، ومئة قطعة من المعدن الخسيس، وكلُّها خلِطت خلطاً، ولك أن تمكث في هذه الغرفة ربع ساعة لتختار منها ما تختار لنفسك، فإذا كان معك جهازٌ يكشف لك الذهب الخالص أليس هذا الجهاز من أنفعِ الأجهزة وأهمِّها بالنسبة لك؟ فتأخذ القطع مِن أفضل عيار، وتصبح غنياً جداً.
فنحن الآن أمام ركام، هناك حق، وهناك باطل، وأمامنا صحيح، وغلط، سنة وبدعة، فما الذي ينجينا؟ أن نأخذ مقياس النبي عليه الصلاة والسلام وأن نأخذ من هذا الركام ما هو صحيح وندع ما هو باطل، وننجو بديننا ودنيانا.
منهج التلقي أداة الإنسان للحكم في أي أمر خلافي :
وكتطبيق عملي لهذا الدرس، كل إنسان يلتقي مع آلاف الأشخاص في عمله، في نزهته، في سفره، في لقاءاته، في ندواته، وفي الأعم الأغلب تُطرح موضوعات دينية، وإذا لم يكن معنا منهج بحث فهناك آلاف الأطروحات، وآلاف الاتجاهات، وآلاف المنطلقات، فما الذي يعصمنا من هذه الترهات؟ يعصمنا أننا نملك منهج التلقي، أحيانًا أسأل إنسانًا: لو عُرِض عليك ألف قضية في الدين، كيف تميز بين صحيحها وزيغها، بين حقها وباطلها، بين صوابها وخطئها، إذا لم يكن لديك مقياس؟ فالمشكلة كبيرة، أعطيناك قطعة قماش، وعلى كل قطعة مقياسها، هذه اثنتا عشرة ياردة، وهذه خمس وعشرون ياردة، وقلنا لك: هذا المقياس صحيح وليس معك أداة للتأكد من صحة هذا المقياس، لو معك متر لانتهى كل شيء، وهذه القطعة صحيحة، وهذه ناقصة متراً مثلاً... فالفضل للمتر الذي تملكه.
أو يمكن أن يحكم إنسان بقياس قطعة قماش، وهو لا يملك متراً وقد تكون عليها لصاقة غير صحيحة؟
أنت لا تستطيع أن تكون حكَماً في أمر خلافي إذا لم تملك منهج التلقي، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
[ سورة يوسف: 108 ]
ما هي البصيرة، لدينا دليل، وعندنا تعليل، فإذا عودت نفسك ألاّ تقبل شيئًا إلا بالدليل، وألا ترفض شيئاً إلا بالدليل، معنى ذلك أنّك تملك منهج التلقي.
منهج التلقي يقوم على :
1 ـ القرآن الكريم :
ما هو الدليل؟ أعلى أنواع الأدلة كلام الله، وهو الدليل الأول عند المؤمنين، أما لو حدثت ملحدين، فكلام الله عندهم لا يِّقدم ولا يؤخِّر، أما الكلام بين المؤمنين فأعلى كلامٍ كلامُ الله، وكلام الله قطعي الثبوت، ولكن الخلاف الآن لا على ثبوتيته، فليس في العالم الإسلامي إنسان واحد إلا المنحرفين، إلا ويعتقد أن هذا الكلام كله كتاب الله، لماذا نختلف؟ نحن الآن نختلف على تفسيره، لا على ثبوتيته، لا على نصه على تفسيره، أليس هناك منهج للتفسير؟ هناك منهج للتفسير إنه علم الأصول، نحن إذا وقفنا عند آية، وفهمناها وفق علم الأصول فهماً دقيقاً، فهذه أعلى أنواع الأدلة، القرآن قطعي الثبوت، لكنه ظني الدلالة، وقطعي الدلالة، نحن يجب أن نفهمه وفق علم الأصول هذا أول منهج تلقٍ.
2 ـ السنة الشريفة :
الثاني، أصح كلام بعد كلام الله كلامُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المبيِّن، وهو المفسِّر، وهو المعصوم، لكن الحديث غير القرآن، القرآن كله قطعي الثبوت، لكن الحديث بعضه قطعي الثبوت، وبعضه ظني الثبوت، ونشاطنا مع القرآن فقط أن نفهم ماذا أراد الله، لكن مع الحديث الشريف فلنا نشاطان، أول نشاط: هل قال هذا النبي حقاً؟ التأكد من صحة الحديث، مرة إنسان قدم لخمسة دكاترة في جامعة القاهرة لوحات زيتية على أنها لبيكاسو، وقال لهم: ما قولكم في هذه اللوحة؟ فتكلم هذا الأستاذ صفحة أو صفحتين عن اللوحة، وأبعادها، وخلفياتها، وعقلية الفنان، ومشكلاته، وصراعاته، تحليل رائع.
الثاني عرضوا عليه اللوحات، فقال رأيه، خمس صفحات كتبت، ونُشِرت في مجلة شهيرة جداً في القاهرة، وبعد أن انتهى هذا التحقيق الصحفي أُشيرَ إلى أن هذه اللوحات رسمها قرد في ميلانو، في مركز تدريب القرود، قال: هؤلاء الأساتذة الخمس بقوا سنوات طويلة لا يكلمون أحداً، لأنهم تورطوا في ورطة كبيرة.
لو أنهم تأكدوا من صحة التوقيع لكانوا في غنى عن هذه الورطة، فقد ترى إنسانًا يحضر حديثًا حول موضوع، ويحلِّله، ويوسّعه، ويظهر أبعاده، وخلفياته، ومؤداه، وأهدافه، فيأتي إنسان آخر، ويقول له: الحديث كله موضوع، فلا تتعب نفسك، والنبي لم يقله.
نحن بحاجة ماسة إلى منهج تلقٍ، أول شيء القرآن قطعي الثبوت، لكنه ظني الدلالة، أو قطعي الدلالة، نفهمه وفق علم الأصول.
البند الثاني لدينا منهج التلقي للحديث، وهو بيان النبي، ولكن هناك أحاديث موضوعة، ليس لها أصل، ندعها، أما الضعيفة فرأي العلماء أنه يجوز أن تستشهد بها في فضائل الأعمال، أما كحكم فقهي فلا بد أن تبقى في الصحاح، وكعقيدة لا بد أن تبقى في المتواتر.
أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، فمع الحديث الصحيح ليس هناك مشكلة، أما الحديث الموضوع ففيه الخطر الداهم، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَنّ حدّث عنِّي بحديث يُرى أنه كذِب، فهو أحد الكاذبين ))
[متفق عليه عن المغيرة بن شعبة ]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَان لا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))
[متفق عليه عن ابي هريرة]
لا يمكن أن تروي حديثاً موضوعاً إلا وأن تذكر أنه موضوع، وإلا فأنت في إثم كبير، لابد أن نفهم حديث رسول الله وفق علم الأصول.
3 ـ أي كلام غير كلام رسول الله وكلام الله بعد التأكد من صحته :
الكلام الثالث، أي كلام غير كلام رسول الله وكلام الله، فأوّلاً: يجب أن نتأكد من صحة نسبته إلى صاحبه، لعله لم يقله، ثم يجب أن نفهمه وفق علم الأصول، ثم نعرضه على كتاب الله وسنة رسوله، فإذا وافقه فعلى العين والرأس، وإذا خالفه فما علينا مِن بأسٍ إذا ركلناه بأقدامنا، هذا منهج التلقي، وأنت أمام ركام من المعلومات، تريد آية مفسرةً تفسيراً أصولياً، أو حديثًا صحيحاً مفسراً تفسيراً أصوليًّاً، أو قول تابعي أو صحابي موافقًا للكتاب والسنة.
إذا كانت عندك هذه القاعدة الذهبية، فهذا اسمه منهج التلقي، أنت عندك حرية الحركة، سمعتُ قصة تعارض آية قرآنية فلا أقبلها، سمعتُ حديثًا لستُ متأكداً من صحته أرفضه، لذلك منهج التلقي ألاّ تقبل شيئًا إلا وفق منهج دقيق، وألاّ ترفض شيئاً إلا وفق منهج دقيق، فأنت عالم، أما جعبة فيها من الشطحات، والمبالغات، والكلمات، والنصوص الضعيفة، فهذا ليس علماً، إنما هذا إنسان قصَّاصٌ، وهو ليس بعالم، ولكنه يسلي الناس بقصصه، فلتحذرْ أيها المسلم مِن أن تنزلق مثله.
وإذا لم يكن عندك منهج التلقي فأنت لست عالماً، ولا طالب علم، أنت بحاجة إلى منهج التلقي، أرجو الله سبحانه وتعالى أن أكون قد قدمت شيئًا في هذا الدرس، وفي هذا الموضوع، ومشكلة المسلمين في البدع التي ملأت حياتهم، وأخرجت دينهم عن صفائه، وعن دقته، وعن صحته.
((... فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ))
[أحمد عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ]
والحمد لله رب العالمين